الأحد، 7 ديسمبر 2008

موضوع اعجبنى/ التفسير الخاطىء لتراجعنا




التفسير الخاطئ لتراجعنا


- عبدالله العليان - المعهد العربى للدراسات الاستراتيجية




من التفسيرات المعروفة في عالم الطب النفسي، أنه عندما يجد الطبيب أمامه مريضاً يشكو من عقدة نفسية متأصلة ناشئة عن عقدة معينة وقعت في عالم الطفولة، يقوم الطبيب الذي يعالجه بمحاولة تذكير المريض استعادة تلك الحادثة معدداً له العديد من الأمور التي عادة ما تحدث للإنسان في الطفولة سواء في مرحلة مبكرة أو في السنوات التي تليها بهدف تقويم الذاكرة بتلك الحادثة كنوع من التحليل النفسي، كما يعبر عن ذلك الكاتب فكتور سحاب في هذا المضمار، فالذي يراه الطبيب في هذا الشأن هو أن الحوادث الجسيمة حينما تحدث أمام طفل لا يقدر على تفسير الأسباب والنتائج تترك في عقله تفسيراً خاطئاً للأحداث فيعتمر هذا التفسير الخاطئ في نفسه ويتحول إلى عقدة نفسية لا تلبث أسبابها أن تنزوي في اللاوعي.وعندما يصبح الطفل رجلاً بالغاً قادراً على تفسير الحوادث كالتي سببت له عقدة نفسية فإن هذه العقدة تظل متمكنة منه إلى أن يساعده الطبيب على تذكر الوقائع التي سببتها، فإذا ما عاد إليها وتذكرها أحسن تفسيرها من جديد وعاد إنساناً سوياً بلا عقد قادراً على مواجهة المستقبل والحاضر بنفس سليمة، فلو سلكنا منهج فرويد وحاولنا بدلاً من استخدام هذا المبدأ في الحالات الفردية استخدامه في الحالات الجماعية المطروحة لتعين، كما يقول فكتور سحاب، أن نتصرف بعمق وصدق إلى تذكر ودراسة لتاريخ الاستعمار الأوروبي العسكري والاقتصادي الذي استولى على البلاد العربية تدريجياً منذ مطلع القرن الماضي.. ذلك الحدث الجسيم الذي هز الثقة بالنفس وأنماطاً من التفكير والعيش عمرها قرون، فتجد أن وقائعها الخطيرة حدثت في ظروف قصور حضاري تماماً مثلما تقع حوادث أمام ناظري طفل، مقارنة بالتقدم الذي أحرزه الغرب في فترة تخلفنا نحن لأسباب معروفة.. حيال هذه الصدمة جلسنا نعتبر في محاولة لتفسير هزائمنا العديدة وأدى بنا القصور في النضج الثقافي الفكري والتاريخي وقتئذ إلى تفسيرات شتى للهزائم وهي خاطئة بالمرة.وكان أخطر مافي هذا التفسير للهزائم المختلفة وأعمه ضرراً الاعتقاد أن أوروبا إنما هزمتنا لأسباب تتعلق بشخصيتنا الحضارية وإننا لو تشبهنا بالأوروبيين ونزعنا عن أنفسنا ملامح العروبة أو الانتماء إلى الإسلام وما إلى ذلك لأمكننا أن نتخلص من أثقال جسيمة، ولانطلقنا في مسار القوة والتحضر والترقي بلا عائق.وانتشر هذا التفسير الخاطئ للهزيمة في كل نواحي حياتنا الحضارية والثقافية في عقود مختلفة وصدق بعضنا تلك الأوهام التغريبية من منطلق الهزيمة النفسية وبعضها انسلاخ من كل شيء، فأصبح سبب الهزيمة هو اللغة العربية “المقعرة والخطابية الرنانة والنازعة إلى الشعر التقليدي”، وأصبح سبب الهزيمة هو اللباس العربي “غير العملي والذي يكبل القدرة على الحركة النشطة”، واصبح سبب الهزيمة هو الحرف العربي “الذي يحول دون قدرة قراءة الأوروبيين لغتنا”، وأصبح سبب الهزيمة هو التمسك بالدين الذي “يحد من قدرة العلماء على البحث الحر”، وأصبح سبب الهزيمة هو فنوننا الشعبية التقليدية “التي تختلف ولا تتلاءم مع البوليفونيا الأوروبية”.وغيرها الكثير من التفسيرات، والعجيب أن الكثير من شعوبنا تخلت عن اللغة العربية واللباس العربي والحرف العربي وانسلخت من التدين ومع ذلك فإن هزائمها ازدادت مع كل ابتعاد عن هذه المقومات الشخصية، والشواهد كثيرة إذا أردنا التمعن والتدقيق في حياتنا الشخصية والتدقيق في حياتنا المعاصرة.لكن الأصح أن نخطو مثل المريض النفساني خطوة إلى الوراء لاستذكار احتكاكنا بالغرب ولنحلل من جديد كل التأثيرات النفسية التي أصابتنا نتيجة لذلك، حتى نتمكن من فهم عقدتنا التاريخية تمام الفهم ونزيلها من نفوسنا عندئذ فقط سنتمكن من التعاطي مع الحضارات الأخرى.إذا كان الالتصاق بالأرض وتنظيمها من أجل تحقيق أكبر قدر من ضمانات الإشباع مأكلاً ومسكناً وملبساً وجنساً هو الهدف الأوحد للحياة، فإن النمل والنحل ودودة القز ستغدو بلا شك أذكى المخلوقات لأنها تعرف بغريزتها التي أودعها الله فيها كيف تحقق هذه الضمانات بأكبر قدر من الجهد والتنظيم والإنجاز.ومن منا لا يعرف قدرة هذه الحشرات الثلاث على الإنتاج وتنظيم العمل والبناء، لكن الحياة البشرية ليست إشباعا للضروريات فحسب، إن هذه مسألة مفروغ منها، متفق عليها بين كافة الذين يريدون معالجة هذه الحياة بشكل واقعي جاد، إلا أن هناك أيضاً أهدافاً أخرى وراء الحدود الدنيا من الإشباع والتطمين للضروريات كما يقول د. عماد الدين خليل، فهناك القيم والمثلوالمبادئ والعواطف والوجدانيات والأشواق والمطامح الدينية والجمالية والأخلاقية.إن الروح البشرية تحن دوماً هي الأخرى إلى الاشباع، والنفس البشرية تميل دوما إلى تحقيق منازعها والاستجابة لدوافعها التي تتجاوز العواطف والطعام والشراب. وإذا كان التنظيم المادي الذي تتفوق فيه علينا أصغر الحشرات لحكمة يعلمها الله سبحانه، فإن هناك جانباً لا يقل أهمية وخطورة إن لم يفقه بكثير ذلك هو الجانب الثقافي من الحضارات بكل ما يتضمنه من قيم ومبادئ ومنازع تتجاوز نطاق التعامل المباشر مع التراب.وهذا الجانب هو الذي يمنح الحضارات لونها وشكلها ويهبها شخصيتها المستقلة، وبهذا يتنوع التاريخ البشري، ويتألق بالتغاير والاحتكاك حسب ما يبديه الباحثون بهذا الصدد.فماذا لو جعلت الحضارات البشرية همّها الأول والأخير إنتاج مقادير أكبر من الطعام وبناء مجمعات سكنية أكثر، ونسج مساحات أوسع من الملابس هل يمكن أن يكون هناك تمايز حضاري ؟سيكون هناك تغيير كمي فحسب، هذه الأمة تنتج حنطة وشعيراً أقل من تلك بنسبة خمس وثلاثين في المائة، وتلك الدولة تقذف إلى الأسواق بمنسوجات تفوق الدولة المجاورة حسب احتياجات ومتطلبات هذه الشعوب أو تلك.ليس ثمة تمايز أصيل في شخصية الحضارة، في لونها وطعمها ورائحتها، وماذا تكون قيمة التاريخ البشري لو افتقد هذا التمايز الأصيل؟إن الذي ميز الشرق عن الغرب، والهند عن الصين، وعالم الاسلام عن عالم أمريكا أو أوروبا ليس مقدار ما تبنيه أو تنجزه أو تنسجه، لكن كيف تحب كل أمة من هذه الأمم أن تؤدي واجباتها الذاتية وفق قيمها وثقافتها. كيف تكتب أشعارها وقصائدها وفلسفاتها وكيف تفكر في مصيرها ومستقبلها حسب ما تمليه وجدانيات مشاعر أمتها؟فالاهتمامات الكبيرة هي تلك التي تتجاوز شد الأرض وضروراتها على قوة هذا الشد وثقل هذه الضرورات وأهميتها القصوى، تتجاوز إلى الآفاق الرحبة الممتدة التي جاءت بها الأديان على وجه الخصوص لتقود البشرية إلى الطريق السوي القويم.ومن دون هذه الحرية سوف لن نفعل اكثر مما تفعله دودة القز وهي تنسج الحرير ومجمعات النمل وهي تخزن الغلال لأيام الشتاء، وممالك النحل لتبني خلاياها وفق هندسة معمارية غاية في الإتقان.